ـ الاعتراف :
ـ اسبقني يا دكتور "أسعد" أنت و"سارة" إلى معمل الأبحاث ، وسوف ألحق بكما خلال وقت قصير .
قالها "عزيز" بهدوء ، وهو جالس وراء مكتبه بالكلية ، بينما جلس قبالته كل من "سارة" والدكتور "أسعد" .
أطلت على وجه الدكتور "أسعد" دهشة شديدة ، ارتاب في أن أذنيه قد أخطأتا السمع ، أخذ يقلب عينيه بين "عزيز" و"سارة" ، سادت فترة صمت قبل أن يتساءل الدكتور "أسعد" وهو يقطب ما بين حاجبيه :
ـ أصحب "سارة" معي إلى المعمل ؟!
أومأ "عزيز" برأسه ، وقال بحزم :
ـ نعم ، اذهبا الآن ولا تضيعا الوقت .
قام الدكتور "أسعد" من مقعده بتثاقل ، مشي خطوات مضطربة ، وتبعته "سارة" دون أن تنبس ببنت شفة ، بالرغم من ذلك فقد نظرت بركن خفي إلى "عزيز" لتستشف من وجهه جامد الأسارير ، الذي لا يحمل أي تعبير يدل على ما يفكر فيه ، شعرت أن ثمة شيء غامض ورهيب يخفيه عنها ، يريد البوح به ، الذي زاد من غموض الأمر سماعها لأول مرة عن وجود معمل أبحاث ، فلم يذكره الدكتور "عزام" لها أبدا في أي من الأحاديث التي دارت بينهما
كانت أسارير الدكتور "أسعد" الجالس وراء مقود السيارة تختلج في تيار مستمر يرسم خطوطه على جبينه ووجهه وقد أصبح أحمر قانٍ ، بينما كان يستشعر حرارة تغمر جسده ، تألقت عيناه بعاطفة مشبوبة ، وهو ينظر إلى "سارة" من خلال المرآة الأمامية ، وانتابه شعور بالسعادة لأن هذه المخلوقة الجميلة التي تختال دائما في خياله وأحلامه جالسة بجانبه وبالقرب منه ، وإن وكان هذا الشعور ممزوجا بالخوف عليها من الدكتور "عزام" ، فهو لا يشعر بالطمأنينة عليها وهي معه ، لم يصدق يوما أن هذا الرجل قادر على الحب والعطاء .. ثم أن ذهابها إلى المعمل قد يعرضها للخطر ، فقد يكون الدكتور "عزام" ينوي أن يجري عليها أبحاثه كما أجراها على "سكينة" من قبل .
عندما خطرت له "سكينة" تدافعت إلى رأسه عشرات من الأسئلة عنها وعن "عزيز" ، الذي لم يسمح الدكتور "عزام" برؤيته إياه بعد ولادته ؛ ثم انتابه شك مفاجئ ، فهو لم يعد يسمع عن القتلى الذين يموتون بسم العقارب ، ولم تعد الصحافة أو الإعلان يذكرا شيئا عن هذا الموضوع ، فلعل الدكتور "عزام" قد تخلص منه ، ليس من المستبعد أن يكون قد تخلص من "سكينة" أيضا . شعر برجفة مؤلمة تسري في جسده ، فلسوف يجري على "سارة" أبحاثه العظيمة ، ثم يتخلص منها بعد ذلك .
غمغم الدكتور "أسعد" بصوت مرتجف :
ـ يمكنك عدم الذهاب إلى هذا المكان يا آنسة "سارة" .
صاحت "سارة" بلطف حازم :
ـ إنني مصرة على الذهاب إلى معمل الأبحاث ، فهناك على ما يبدو أشياء غامضة أريد معرفتها قبل ..
صمتت فجأة ، ولم تكمل عبارتها .
قال الدكتور "أسعد" بنبرة أسى :
ـ قبل أن تتزوجي الدكتور "عزام" .
ساد صمت قاس ، والسيارة تنهب الطريق متجهة إلى الصحراء ، لاحت على "سارة" إمارات القلق ، وهي تصعد نظرها في الطريق الرملي ، وقد اكتسي بلون أصفر ذهبي بعد أن غمرته أشعة الشمس الساخنة ، رأت سرابا ممتدا عبر الطريق الخالي من مظاهر الحياة .
بعد فترة لاحت أسوار عالية باهتة في ضوء الشمس الباهر ، فتحت "سارة" عينيها دهشة ، والسيارة تقترب من هذا المكان الغامض الذي يشبه قلعة حصينة في هذه الصحراء الواسعة .
عبرت السيارة البوابة الحديدية الحصينة ، التفتت وراءها بفضول ، وهي تراها تقفل دون صوت ، شعرت بانقباض ممض ، وعيناها الجميلتان تمسحان المكان ، والسيارة تواصل سيرها عبر الممشى الطويل ، حتى توقفت بهما في مواجهة معمل الأبحاث .
هبط الدكتور "أسعد" من السيارة ، ثم التف حولها من الأمام ، فتح باب "سارة" ، فهبطت وهي تقدم قدما وتؤخر الأخرى في تردد ، ثم فجأة شق السكون صوت همهمات مخيفة كأنها صوت أشباح هائمة ، فصرخت مرتعبة ، والتصقت بالدكتور "أسعد" تلتمس الأمان ، فضمها إليه وأغمض عينيه ، وقد شعر بنشوة غامرة وهي بين أحضانه .
رغم الخوف الذي كان لا يزال يسيطر عليها ، إلا أنها دفعت نفسها بعيدا عنه ، تمتمت وهي تشعر بالخجل :
ـ أنا آسفة يا دكتور "أسعد" .
ابتسم ، ثم قال بصوت هادئ كي يبعث الطمأنينة إلى قلبها :
ـ هذه أصوات الحيوانات التي نستخدمها في التجارب .
مرر الدكتور "أسعد" الكارت المعدني ففتح باب المبنى ، ثم ما لبث أن أقفل وراءهما ، تعالي صراخ "سارة" مرة أخرى وتردد صداه عبر الدهليز الطويل خافت الإضاءة ، عندما لمحت القطة المسخ ذات الرأسين وعيونها الأربعة ينبثق منها شرر اللهب ، وتنطلق صوبهما ، فدفعها الدكتور "أسعد" بقدمه بعيدا ، فأخذت تموء بصوت رهيب .
أغمضت "سارة" عينيها ، كادت أن يغشى عليها من الخوف فضمها إليه الدكتور "أسعد" ، قال لها برقة :
ـ يمكنك التراجع عن موقفك ، وسوف أعيدك إلى منزلك في الحال .
قالت وهي تتحامل على نفسها ، وقد تماسكت بعض الشيء :
ـ لا يا دكتور "أسعد" ، لكن المفاجأة هي التي أذهلتني .
اتجه بها إلى المختبر، وأخذ يشرح لها الأجهزة وأهميتها ، ووظيفة كل منها .
بعد أن تأكد "عزيز" من أن الدكتور "أسعد" و"سارة" غادرا الجامعة ، توجه إلى سيارته على الفور متجها إلى معمل الأبحاث سالكا طريقا آخر عبر الصحراء .
عندما وصل إلى الأسوار الخلفية للمعمل ، مشي الهوينى بالسيارة بمحاذاة السور ، لمح الباب السري بعينيه الثاقبتين ، ضغط على الأحجار بشكل معين ، فانفتح باب صغير دخل منه ، ثم ما لبث أن أقفل وراءه ، كان يؤدي إلى نفق ممتد نحت الأرض ، ما أن دخله حتى أُضئ كله ، ركب عربة صغيرة تشبه تلك التي تستخدم في السكك الحديدية ، وضغط على زر بها ، فتحركت بسرعة عبر القضبان الحديدية ، ثم توقفت عند نهاية النفق ، فهبط "عزيز" من العربة ، ضغط على زر موجود بالجدار فتحرك وولج منه إلى معمل الأبحاث .
بينما كان الدكتور "أسعد" يقوم بشرح بعض الأجهزة المستخدمة في المعمل ، ظهر "عزيز" أمامهما فجأة ، فصرخت سارة مرتعبة ، بينما تجمد الدكتور "أسعد" مكانه من هول المفاجأة.
صاح "عزيز" وهو يبتسم بغموض :
ـ أنا آسف لم أقصد إرعابكما .
صاحت بصوت ضعيف :
ـ لم نشعر بدخولك يا "عزيز" !
حدق الدكتور "أسعد" النظر إلى "عزيز" ، وغمره إحساس غامض مخيف ، ارتسم علي وجهه وفي عينيه المتسعتين على آخرهما عند سماعه اسم "عزيز" ، هتف دون إرادة منه مرددا الاسم بتعجب :
ـ "عزيز" !!
التفت "عزيز" إليه والابتسامة الغامضة ما زالت مرتسمة على وجهه :
ـ ما الذي أرعبك من اسم "عزيز" يا دكتور "أسعد" ؟
شحب وجه الدكتور "أسعد" حتى صار كالأموات ، ثم أخذ يلوح بيديه صارخا بأفكاره :
ـ مستحيل .. مستحيل !!
ضحك "عزيز" ضحكة جافة ، ثم التفت إلى "سارة" التي امتقع وجهها ، وأخذ جسدها يرتجف وهي تقلب عينيها بين الاثنين في ذهول مؤلم ، قطع ضحكته فجأة ، وارتسم علي وجهه أسى وشعر بمرارة تغص حلقه ، هتف بها في حرارة :
ـ أرجوك يا حبيبتي لا تخافي ، فسوف تعرفين كل شيء الآن .
صرخ الدكتور "أسعد" متوسلا ، وقد تقلص وجهه ، وعمقت فيه تجاعيد كأنما كبر عشرات الأعوام فجأة :
ـ لا ، لا أرجوك لا تقل شيئا .
لم يبال "عزيز" بتوسلاته وهو يشير إلى الأطباق الزجاجية ، والأجهزة التي امتلأ بها المختبر ، استطرد وهو يقول :
ـ هنا كانت بدايتي منذ كنت خلية صغيرة لا قيمة لها .
تلقف أنفاسه المتلاحقة ، وغامت عيناه ، كأنما كان ينبش بذاكرته في جدار الماضي ، قال بصوت عميق :
ـ فمنذ ثمانية عشر عاما راودت عالم كبير فكرة جهنمية في أنه سيخلد باستنساخ نفسه ، ودفعه الطموح العلمي بأن تكون هذه النسخة أفضل منه ، فوضع مورثات الأسد كي تكتسب نسخته قوة عضلية فائقة ، وكان لهذا العالم مساعدان ، أحدهما رجل والآخر امرأة ، شاركاه في مشروعه الرهيب . للأسف أخطأت المرأة فوضعت مورثات العقرب ، لسوء الحظ نجحت التجربة ، وتم زرع الجنين عندما وصل إلى المرحلة التوتية في رحمها بعد أن أجبرها العالم بالقهر والقوة ، عاشت المسكينة وهذا الطفل الذي ولدته في فيلته المنعزلة بعيدا عن الناس ، لم يكن نصيب الاثنين منه إلا الإهمال والقسوة ، عندما كبر الطفل أدرك هذا العالم الخطأ المروع الذي وقع فيه ، لما رأي صورة طبق الأصل منه ، فأراد التخلص منهما ، خاصة أنه أحب فتاة جميلة ، وأراد أن يزيل البقعة السوداء التي تشوه حياته ، والغريب في الأمر أن نسخته أحب هذه الفتاة أيضا منذ أن وقعت عيناه عليها ، وانتابته نفس المشاعر السوداء .
كان هذا الرجل أسبق في خطوته الإجرامية ، استطاع أن يقتل المرأة ، أما نسخته فاستطاع الإفلات من الموت المحقق الرهيب بأعجوبة ، والانتقام لأمه المسكينة ولنفسه ، كان جزاء القاتل القتل بنفس الطريقة الرهيبة التي كان العالم ينوي بها قتل الاثنين .
أضاف "عزيز" وقد غص حلقه بالمرارة :
ـ هذه قصتي باختصار يا حبيبتي ، إنني أدرك أنك أحببت الدكتور "عزام" وليس نسخته ، فقد خدعتك عندما تقمصت شخصيته ، مع ذلك فلم أخدعك يوما في حبي لك ، فلقد أحببتك لدرجة الجنون ، بل أحببتك أكثر من نفسي ، وأحببت الحياة من أجلك ., فلقد أشعرني حبي لك أنني إنسان يستطيع أن يحب .
هتفت "سارة" وهي تمد يديها إلى الأمام :
ـ صدقني يا "عزيز" ، لقد أحببتك أنت ، وليس الدكتور "عزام" , فقد كان شعوري نحوه هو إجلال الأستاذ ، أما معك فلقد شعرت بالسعادة الحقيقية ، وبدفء وقوة حبك لي .
لمعت الدموع في عيني "عزيز" ، قال وهو يزدرد دموعه المنسابة على وجهه :
ـ للقصة بقية يا عزيزتي ، فأنا مسخ ، أحمل في جسدي مورثات العقرب ، كل من يقترب مني تصيبه لعنة الموت من ذنبي القاتل .
تداعي جسد "عزيز" ، جلس على ركبتيه ، ودفع رأسه بين راحتيه ، أخذ يجهش بالبكاء الحار بصوت مرتفع ، فاندفعت "سارة" إليه وجلست بجانبه ، مدت يدها وأخذت رأسه ووضعتها على صدرها وضمته إليها بحرارة ، هتفت بصوت مرتعش ، وعبراتها الساخنة تلفح وجهها :
ـ "عزيز" ، حبيبي ، لقد أحببتك بكل ذرة في كياني ، لن يفرق أي شيء مهما كان بيننا .
غمغم بصوت مختنق :
ـ إنني مجرم يا "سارة" .
ضغطت براحتيها على ظهره ، وهي تصيح :
ـ لست مجرما يا حبيبي ، فالمجرم هو الدكتور "عزام" وشريكاه في الجريمة .
صرخ الدكتور "أسعد" ، وقد استند بيده على منضدة خشبية خشية الوقوع :
ـ أرجوك لا تقولي هذا يا "سارة" ، لقد كنت أنا و"سكينة" ضحية الدكتور "عزام" ، فأنت لا تعرفين جبروت وقسوة هذا الرجل ، و...
فجأة دوى صوت انفجار هائل ، تدافعت الأجهزة والأشياء الصغيرة والزجاجية في كل مكان ، سُمع صوت انهيار الحائط الأمامي للمعمل ، فوثب الدكتور "أسعد" ليتفادى الخطر المحدق ، بينما نهض "عزيز" آخذا "سارة" معه وهو يضمها إليه ، وقد أذهلتهم المفاجأة ، ثم تناهى لهم أصوات رجال يتصايحون بلكنة أجنبية متوحشة ، فصرخ "عزيز" :
ـ هيا نختبئ .
جذب "سارة" إلى الباب السري للمكتبة المؤدي إلى مكان المسوخ وحيوانات التجارب ، وهبطا بسرعة يتبعهما الدكتور "أسعد" ، صرخت "سارة" عندما لمحت المسوخ المكشرة عن أنيابها ، أخذ جسدها يرتجف ، وقد أصابها رعب قاتل ، فأمسك "عزيز" يدها بين راحتيه ، وصاح بها :
ـ لا تخافي يا حبيبتي ، فأنا معك .
هتف الدكتور "أسعد" متسائلا :
ـ ما الذي حدث ؟
قال "عزيز" :
ـ لقد اقتحمت إحدى العصابات الدولية مبنى المعمل ، فهي تسعى وراء الدكتور "عزام" للحصول على مشروعه الأخير .
تناهي لهم صوت أقدام ثقيلة ، تخطو خطوات سريعة في معمل الأبحاث فصرخ "عزيز" :
ـ إنهم يبحثون عنا الآن .
أشار إلى الأقفاص الحديدية في أقصى المكان ، ودفع "سارة" إليها وهو يصرخ :
ـ اختبئي هنا يا "سارة" حتى تكوني في أمان .
ثم التفت إلى الدكتور "أسعد" وصاح به :
ـ اختبئ أنت في الجانب الآخر ، وسأكون أنا في هذا الجانب لأطلق عليهم المسوخ .
صرخ الدكتور "أسعد" هلعا :
ـ لا أرجوك ، فسوف تهاجمنا نحن أيضا .
هتف "عزيز" :
ـ لا تخف ، فإنني قادر على السيطرة عليها .
بدأت رائحة خانقة تزحف إلى المكان ، لمحا ألسنة اللهب تمتد من تحت الباب السري المصنوع من الخشب ، ثم تعالى صوت طقطقة الخشب المتكسر تحت وطأة ضربات هراوات ثقيلة ، فتح الباب المشتعل ، وتقدم رجال يضعون أقنعة واقية من الغازات ، ويرتدون ملابس ضد الحريق ، وقد أشهروا مدافعهم الأتوماتيكية سريعة الطلقات أثناء اقتحامهم المكان .
في اللحظة الحاسمة ، فتح "عزيز" الأقفاص الحديدية للمسوخ ، أشار تجاه المقتحمين ، وصرخ آمرا :
ـ اهجموا عليهم واقتلوهم .
اندفعت المسوخ صوبهم ، اشتبكت مع اثنين منهم ، أخذت تنهش أجسادهما ، بينما كان يصرخان ألما ، ويصارعان المسوخ التي تلطخت بدمائهما ، فتقدم اثنان آخران ، وأطلقا النار على المسوخ ، فسقطت جثثا هامدة .
مات أحد الرجلين بعد أن تمزق جسده بشكل مفزع ، أما الآخر فكان يصرخ من الألم وهو لا يستطيع الحراك بعد أن أصيب إصابات بالغة .
بدأ الرجلان يتقدمان صوب "عزيز" ، الذي أخذ في التراجع إلى الوراء ، بينما كان ذنبه القاتل يتمدد ممزقا سرواله ، صاح أحدهما بصوت آمر :
ـ توقف مكانك .
قال الآخر بصوت أجش :
ـ نريد مخطوطات المشروع الأخير الآن ، وإلا سندمر كل شيء ، ونقتل صديقتك العزيزة "سارة" .
بدأ الدخان المتصاعد من الحريق يغطي المكان ، فألقي ستارا كثيفا مثل الضباب ، جعلهما لا يريان الذنب الرهيب ، وهو يقصف الهواء بشكل غاضب .
أخذ الرجلان يتقدمان إلى الأمام ، و" عزيز" يتراجع إلى الوراء ، استطاعت "سارة" من مخبئها أن تلمح الذنب وهو يشق الدخان ، فصرخت مرتعبة ، بينما انكمش الدكتور "أسعد" وقد نال منه الفزع ، واستولى عليه الخوف ، وهو يرى الرجلين يتقدمان مشهرين أسلحتهما ، وذنب "عزيز" المخيف وهو يتراقص.
أخذت ألسنة النيران تمتد إلى داخل المكان ، بينما كان الرجلان يتقدمان هوى الذنب على أحدهما وأطبق عليه ، فسقط جسده في الحال لافظا أنفاس الحياة ، انطلقت رصاصة في نفس اللحظة أصابت "عزيز" في كتفه ، فانبثقت بقعة كبيرة من الدم ، بالرغم من الألم المروع الذي كان يشعر به ، فقد تحامل على نفسه ، وامتد ذنبه الطويل مرة أخرى وهوى على الرجل بسرعة خاطفة قبل أن يطلق رصاصات أخرى ، فوقع علي الأرض دون حراك .
بدأت النيران تشب في أنحاء المكان ، أخذ لهيبها يلفحهم ، صرخ "عزيز" في الدكتور "أسعد" وهو يلوح بيده تجاه "سارة" :
ـ خذها فورا واخرجا الآن .
قال "عزيز" وهو يضع يده على مكان الجرح الذي كان ينزف بغزارة :
ـ اتركاني الآن ، ولا تفكرا بي بعد الآن .
وثب الدكتور "أسعد" ًصوب "سارة" القابعة في مكانها وراء الأٌقفاص ، وغطاها بمعطفه الثقيل ، وحملها بين ذراعيه ..
صرخت "سارة بلوعة :
ـ "عزيز" .."عزيز" .
هتف "عزيز" بصوت واهن ضعيف وهو يتهاوى على الأرض :
ـ إنني أموت الآن ، اتركا جسدي لتأكله النيران ، وليبق أمري سرا لا يعرفه أحد غيركما .
تقدم الدكتور "أسعد" بين النيران المتأججة ، و"سارة" بين ذراعيه ، وجرى بسرعة خارج المكان مخترقا الباب المشتعل ، ثم تقدم في المختبر عابرا الدهليز بمشقة بعد أن تهدم بناؤه ، حتى أصبح خارج مبنى المعمل المنهار، بينما كانت النيران تندلع بشكل مخيف وقد أخذت كل شيء في طريقها ، حتي الحيوانات المسكينة رهينة الأقفاص .
شبت ألسنة النيران الملتهبة نحو السماء ، والتمع في عيني كل من "سارة" والدكتور "أسعد" الأسى الممزوج بدموعهما .
غمغمت "سارة" بحزن غامر ، وبقلب منفطر :
ـ وداعا يا حبيبي ، أرجو من الله أن يغفر لك كل خطاياك .
لف الدكتور "أسعد" ذراعه حولها ، وهتف برقة :
ـ هيا يا "سارة" لنغادر هذا المكان المشئوم .
ركبا السيارة التي مرقت عبر البوابة مخترقة الصحراء ، حاولت "سارة" أن تلتفت وراءها ، فصاح الدكتور "أسعد" :
ـ أرجوك يا "سارة" لا تنظري وراءك فلقد انتهى كل شيء .
________________
في الطرف الآخر من مبنى الأبحاث كانت سيارة جيب سوداء تنهب الصحراء ناثرة الرمال حولها بشكل غاضب ، قبع عزيز خلف مقودها وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة غامضة مصوبا نظراته إلى الأمام .
تم الجزء الأول ، وأشكر كل من قرأ وجميع من شارك برأيه في هذا العمل ، وأخص بالذكر استاذنا نزار الذي كان لنقده أعظم الأثر في نقسي ، وجعلني أكثر ثقة من الدرب الذي اخترته منهاجا لأعمالي الرروائية .
ـ اسبقني يا دكتور "أسعد" أنت و"سارة" إلى معمل الأبحاث ، وسوف ألحق بكما خلال وقت قصير .
قالها "عزيز" بهدوء ، وهو جالس وراء مكتبه بالكلية ، بينما جلس قبالته كل من "سارة" والدكتور "أسعد" .
أطلت على وجه الدكتور "أسعد" دهشة شديدة ، ارتاب في أن أذنيه قد أخطأتا السمع ، أخذ يقلب عينيه بين "عزيز" و"سارة" ، سادت فترة صمت قبل أن يتساءل الدكتور "أسعد" وهو يقطب ما بين حاجبيه :
ـ أصحب "سارة" معي إلى المعمل ؟!
أومأ "عزيز" برأسه ، وقال بحزم :
ـ نعم ، اذهبا الآن ولا تضيعا الوقت .
قام الدكتور "أسعد" من مقعده بتثاقل ، مشي خطوات مضطربة ، وتبعته "سارة" دون أن تنبس ببنت شفة ، بالرغم من ذلك فقد نظرت بركن خفي إلى "عزيز" لتستشف من وجهه جامد الأسارير ، الذي لا يحمل أي تعبير يدل على ما يفكر فيه ، شعرت أن ثمة شيء غامض ورهيب يخفيه عنها ، يريد البوح به ، الذي زاد من غموض الأمر سماعها لأول مرة عن وجود معمل أبحاث ، فلم يذكره الدكتور "عزام" لها أبدا في أي من الأحاديث التي دارت بينهما
كانت أسارير الدكتور "أسعد" الجالس وراء مقود السيارة تختلج في تيار مستمر يرسم خطوطه على جبينه ووجهه وقد أصبح أحمر قانٍ ، بينما كان يستشعر حرارة تغمر جسده ، تألقت عيناه بعاطفة مشبوبة ، وهو ينظر إلى "سارة" من خلال المرآة الأمامية ، وانتابه شعور بالسعادة لأن هذه المخلوقة الجميلة التي تختال دائما في خياله وأحلامه جالسة بجانبه وبالقرب منه ، وإن وكان هذا الشعور ممزوجا بالخوف عليها من الدكتور "عزام" ، فهو لا يشعر بالطمأنينة عليها وهي معه ، لم يصدق يوما أن هذا الرجل قادر على الحب والعطاء .. ثم أن ذهابها إلى المعمل قد يعرضها للخطر ، فقد يكون الدكتور "عزام" ينوي أن يجري عليها أبحاثه كما أجراها على "سكينة" من قبل .
عندما خطرت له "سكينة" تدافعت إلى رأسه عشرات من الأسئلة عنها وعن "عزيز" ، الذي لم يسمح الدكتور "عزام" برؤيته إياه بعد ولادته ؛ ثم انتابه شك مفاجئ ، فهو لم يعد يسمع عن القتلى الذين يموتون بسم العقارب ، ولم تعد الصحافة أو الإعلان يذكرا شيئا عن هذا الموضوع ، فلعل الدكتور "عزام" قد تخلص منه ، ليس من المستبعد أن يكون قد تخلص من "سكينة" أيضا . شعر برجفة مؤلمة تسري في جسده ، فلسوف يجري على "سارة" أبحاثه العظيمة ، ثم يتخلص منها بعد ذلك .
غمغم الدكتور "أسعد" بصوت مرتجف :
ـ يمكنك عدم الذهاب إلى هذا المكان يا آنسة "سارة" .
صاحت "سارة" بلطف حازم :
ـ إنني مصرة على الذهاب إلى معمل الأبحاث ، فهناك على ما يبدو أشياء غامضة أريد معرفتها قبل ..
صمتت فجأة ، ولم تكمل عبارتها .
قال الدكتور "أسعد" بنبرة أسى :
ـ قبل أن تتزوجي الدكتور "عزام" .
ساد صمت قاس ، والسيارة تنهب الطريق متجهة إلى الصحراء ، لاحت على "سارة" إمارات القلق ، وهي تصعد نظرها في الطريق الرملي ، وقد اكتسي بلون أصفر ذهبي بعد أن غمرته أشعة الشمس الساخنة ، رأت سرابا ممتدا عبر الطريق الخالي من مظاهر الحياة .
بعد فترة لاحت أسوار عالية باهتة في ضوء الشمس الباهر ، فتحت "سارة" عينيها دهشة ، والسيارة تقترب من هذا المكان الغامض الذي يشبه قلعة حصينة في هذه الصحراء الواسعة .
عبرت السيارة البوابة الحديدية الحصينة ، التفتت وراءها بفضول ، وهي تراها تقفل دون صوت ، شعرت بانقباض ممض ، وعيناها الجميلتان تمسحان المكان ، والسيارة تواصل سيرها عبر الممشى الطويل ، حتى توقفت بهما في مواجهة معمل الأبحاث .
هبط الدكتور "أسعد" من السيارة ، ثم التف حولها من الأمام ، فتح باب "سارة" ، فهبطت وهي تقدم قدما وتؤخر الأخرى في تردد ، ثم فجأة شق السكون صوت همهمات مخيفة كأنها صوت أشباح هائمة ، فصرخت مرتعبة ، والتصقت بالدكتور "أسعد" تلتمس الأمان ، فضمها إليه وأغمض عينيه ، وقد شعر بنشوة غامرة وهي بين أحضانه .
رغم الخوف الذي كان لا يزال يسيطر عليها ، إلا أنها دفعت نفسها بعيدا عنه ، تمتمت وهي تشعر بالخجل :
ـ أنا آسفة يا دكتور "أسعد" .
ابتسم ، ثم قال بصوت هادئ كي يبعث الطمأنينة إلى قلبها :
ـ هذه أصوات الحيوانات التي نستخدمها في التجارب .
مرر الدكتور "أسعد" الكارت المعدني ففتح باب المبنى ، ثم ما لبث أن أقفل وراءهما ، تعالي صراخ "سارة" مرة أخرى وتردد صداه عبر الدهليز الطويل خافت الإضاءة ، عندما لمحت القطة المسخ ذات الرأسين وعيونها الأربعة ينبثق منها شرر اللهب ، وتنطلق صوبهما ، فدفعها الدكتور "أسعد" بقدمه بعيدا ، فأخذت تموء بصوت رهيب .
أغمضت "سارة" عينيها ، كادت أن يغشى عليها من الخوف فضمها إليه الدكتور "أسعد" ، قال لها برقة :
ـ يمكنك التراجع عن موقفك ، وسوف أعيدك إلى منزلك في الحال .
قالت وهي تتحامل على نفسها ، وقد تماسكت بعض الشيء :
ـ لا يا دكتور "أسعد" ، لكن المفاجأة هي التي أذهلتني .
اتجه بها إلى المختبر، وأخذ يشرح لها الأجهزة وأهميتها ، ووظيفة كل منها .
بعد أن تأكد "عزيز" من أن الدكتور "أسعد" و"سارة" غادرا الجامعة ، توجه إلى سيارته على الفور متجها إلى معمل الأبحاث سالكا طريقا آخر عبر الصحراء .
عندما وصل إلى الأسوار الخلفية للمعمل ، مشي الهوينى بالسيارة بمحاذاة السور ، لمح الباب السري بعينيه الثاقبتين ، ضغط على الأحجار بشكل معين ، فانفتح باب صغير دخل منه ، ثم ما لبث أن أقفل وراءه ، كان يؤدي إلى نفق ممتد نحت الأرض ، ما أن دخله حتى أُضئ كله ، ركب عربة صغيرة تشبه تلك التي تستخدم في السكك الحديدية ، وضغط على زر بها ، فتحركت بسرعة عبر القضبان الحديدية ، ثم توقفت عند نهاية النفق ، فهبط "عزيز" من العربة ، ضغط على زر موجود بالجدار فتحرك وولج منه إلى معمل الأبحاث .
بينما كان الدكتور "أسعد" يقوم بشرح بعض الأجهزة المستخدمة في المعمل ، ظهر "عزيز" أمامهما فجأة ، فصرخت سارة مرتعبة ، بينما تجمد الدكتور "أسعد" مكانه من هول المفاجأة.
صاح "عزيز" وهو يبتسم بغموض :
ـ أنا آسف لم أقصد إرعابكما .
صاحت بصوت ضعيف :
ـ لم نشعر بدخولك يا "عزيز" !
حدق الدكتور "أسعد" النظر إلى "عزيز" ، وغمره إحساس غامض مخيف ، ارتسم علي وجهه وفي عينيه المتسعتين على آخرهما عند سماعه اسم "عزيز" ، هتف دون إرادة منه مرددا الاسم بتعجب :
ـ "عزيز" !!
التفت "عزيز" إليه والابتسامة الغامضة ما زالت مرتسمة على وجهه :
ـ ما الذي أرعبك من اسم "عزيز" يا دكتور "أسعد" ؟
شحب وجه الدكتور "أسعد" حتى صار كالأموات ، ثم أخذ يلوح بيديه صارخا بأفكاره :
ـ مستحيل .. مستحيل !!
ضحك "عزيز" ضحكة جافة ، ثم التفت إلى "سارة" التي امتقع وجهها ، وأخذ جسدها يرتجف وهي تقلب عينيها بين الاثنين في ذهول مؤلم ، قطع ضحكته فجأة ، وارتسم علي وجهه أسى وشعر بمرارة تغص حلقه ، هتف بها في حرارة :
ـ أرجوك يا حبيبتي لا تخافي ، فسوف تعرفين كل شيء الآن .
صرخ الدكتور "أسعد" متوسلا ، وقد تقلص وجهه ، وعمقت فيه تجاعيد كأنما كبر عشرات الأعوام فجأة :
ـ لا ، لا أرجوك لا تقل شيئا .
لم يبال "عزيز" بتوسلاته وهو يشير إلى الأطباق الزجاجية ، والأجهزة التي امتلأ بها المختبر ، استطرد وهو يقول :
ـ هنا كانت بدايتي منذ كنت خلية صغيرة لا قيمة لها .
تلقف أنفاسه المتلاحقة ، وغامت عيناه ، كأنما كان ينبش بذاكرته في جدار الماضي ، قال بصوت عميق :
ـ فمنذ ثمانية عشر عاما راودت عالم كبير فكرة جهنمية في أنه سيخلد باستنساخ نفسه ، ودفعه الطموح العلمي بأن تكون هذه النسخة أفضل منه ، فوضع مورثات الأسد كي تكتسب نسخته قوة عضلية فائقة ، وكان لهذا العالم مساعدان ، أحدهما رجل والآخر امرأة ، شاركاه في مشروعه الرهيب . للأسف أخطأت المرأة فوضعت مورثات العقرب ، لسوء الحظ نجحت التجربة ، وتم زرع الجنين عندما وصل إلى المرحلة التوتية في رحمها بعد أن أجبرها العالم بالقهر والقوة ، عاشت المسكينة وهذا الطفل الذي ولدته في فيلته المنعزلة بعيدا عن الناس ، لم يكن نصيب الاثنين منه إلا الإهمال والقسوة ، عندما كبر الطفل أدرك هذا العالم الخطأ المروع الذي وقع فيه ، لما رأي صورة طبق الأصل منه ، فأراد التخلص منهما ، خاصة أنه أحب فتاة جميلة ، وأراد أن يزيل البقعة السوداء التي تشوه حياته ، والغريب في الأمر أن نسخته أحب هذه الفتاة أيضا منذ أن وقعت عيناه عليها ، وانتابته نفس المشاعر السوداء .
كان هذا الرجل أسبق في خطوته الإجرامية ، استطاع أن يقتل المرأة ، أما نسخته فاستطاع الإفلات من الموت المحقق الرهيب بأعجوبة ، والانتقام لأمه المسكينة ولنفسه ، كان جزاء القاتل القتل بنفس الطريقة الرهيبة التي كان العالم ينوي بها قتل الاثنين .
أضاف "عزيز" وقد غص حلقه بالمرارة :
ـ هذه قصتي باختصار يا حبيبتي ، إنني أدرك أنك أحببت الدكتور "عزام" وليس نسخته ، فقد خدعتك عندما تقمصت شخصيته ، مع ذلك فلم أخدعك يوما في حبي لك ، فلقد أحببتك لدرجة الجنون ، بل أحببتك أكثر من نفسي ، وأحببت الحياة من أجلك ., فلقد أشعرني حبي لك أنني إنسان يستطيع أن يحب .
هتفت "سارة" وهي تمد يديها إلى الأمام :
ـ صدقني يا "عزيز" ، لقد أحببتك أنت ، وليس الدكتور "عزام" , فقد كان شعوري نحوه هو إجلال الأستاذ ، أما معك فلقد شعرت بالسعادة الحقيقية ، وبدفء وقوة حبك لي .
لمعت الدموع في عيني "عزيز" ، قال وهو يزدرد دموعه المنسابة على وجهه :
ـ للقصة بقية يا عزيزتي ، فأنا مسخ ، أحمل في جسدي مورثات العقرب ، كل من يقترب مني تصيبه لعنة الموت من ذنبي القاتل .
تداعي جسد "عزيز" ، جلس على ركبتيه ، ودفع رأسه بين راحتيه ، أخذ يجهش بالبكاء الحار بصوت مرتفع ، فاندفعت "سارة" إليه وجلست بجانبه ، مدت يدها وأخذت رأسه ووضعتها على صدرها وضمته إليها بحرارة ، هتفت بصوت مرتعش ، وعبراتها الساخنة تلفح وجهها :
ـ "عزيز" ، حبيبي ، لقد أحببتك بكل ذرة في كياني ، لن يفرق أي شيء مهما كان بيننا .
غمغم بصوت مختنق :
ـ إنني مجرم يا "سارة" .
ضغطت براحتيها على ظهره ، وهي تصيح :
ـ لست مجرما يا حبيبي ، فالمجرم هو الدكتور "عزام" وشريكاه في الجريمة .
صرخ الدكتور "أسعد" ، وقد استند بيده على منضدة خشبية خشية الوقوع :
ـ أرجوك لا تقولي هذا يا "سارة" ، لقد كنت أنا و"سكينة" ضحية الدكتور "عزام" ، فأنت لا تعرفين جبروت وقسوة هذا الرجل ، و...
فجأة دوى صوت انفجار هائل ، تدافعت الأجهزة والأشياء الصغيرة والزجاجية في كل مكان ، سُمع صوت انهيار الحائط الأمامي للمعمل ، فوثب الدكتور "أسعد" ليتفادى الخطر المحدق ، بينما نهض "عزيز" آخذا "سارة" معه وهو يضمها إليه ، وقد أذهلتهم المفاجأة ، ثم تناهى لهم أصوات رجال يتصايحون بلكنة أجنبية متوحشة ، فصرخ "عزيز" :
ـ هيا نختبئ .
جذب "سارة" إلى الباب السري للمكتبة المؤدي إلى مكان المسوخ وحيوانات التجارب ، وهبطا بسرعة يتبعهما الدكتور "أسعد" ، صرخت "سارة" عندما لمحت المسوخ المكشرة عن أنيابها ، أخذ جسدها يرتجف ، وقد أصابها رعب قاتل ، فأمسك "عزيز" يدها بين راحتيه ، وصاح بها :
ـ لا تخافي يا حبيبتي ، فأنا معك .
هتف الدكتور "أسعد" متسائلا :
ـ ما الذي حدث ؟
قال "عزيز" :
ـ لقد اقتحمت إحدى العصابات الدولية مبنى المعمل ، فهي تسعى وراء الدكتور "عزام" للحصول على مشروعه الأخير .
تناهي لهم صوت أقدام ثقيلة ، تخطو خطوات سريعة في معمل الأبحاث فصرخ "عزيز" :
ـ إنهم يبحثون عنا الآن .
أشار إلى الأقفاص الحديدية في أقصى المكان ، ودفع "سارة" إليها وهو يصرخ :
ـ اختبئي هنا يا "سارة" حتى تكوني في أمان .
ثم التفت إلى الدكتور "أسعد" وصاح به :
ـ اختبئ أنت في الجانب الآخر ، وسأكون أنا في هذا الجانب لأطلق عليهم المسوخ .
صرخ الدكتور "أسعد" هلعا :
ـ لا أرجوك ، فسوف تهاجمنا نحن أيضا .
هتف "عزيز" :
ـ لا تخف ، فإنني قادر على السيطرة عليها .
بدأت رائحة خانقة تزحف إلى المكان ، لمحا ألسنة اللهب تمتد من تحت الباب السري المصنوع من الخشب ، ثم تعالى صوت طقطقة الخشب المتكسر تحت وطأة ضربات هراوات ثقيلة ، فتح الباب المشتعل ، وتقدم رجال يضعون أقنعة واقية من الغازات ، ويرتدون ملابس ضد الحريق ، وقد أشهروا مدافعهم الأتوماتيكية سريعة الطلقات أثناء اقتحامهم المكان .
في اللحظة الحاسمة ، فتح "عزيز" الأقفاص الحديدية للمسوخ ، أشار تجاه المقتحمين ، وصرخ آمرا :
ـ اهجموا عليهم واقتلوهم .
اندفعت المسوخ صوبهم ، اشتبكت مع اثنين منهم ، أخذت تنهش أجسادهما ، بينما كان يصرخان ألما ، ويصارعان المسوخ التي تلطخت بدمائهما ، فتقدم اثنان آخران ، وأطلقا النار على المسوخ ، فسقطت جثثا هامدة .
مات أحد الرجلين بعد أن تمزق جسده بشكل مفزع ، أما الآخر فكان يصرخ من الألم وهو لا يستطيع الحراك بعد أن أصيب إصابات بالغة .
بدأ الرجلان يتقدمان صوب "عزيز" ، الذي أخذ في التراجع إلى الوراء ، بينما كان ذنبه القاتل يتمدد ممزقا سرواله ، صاح أحدهما بصوت آمر :
ـ توقف مكانك .
قال الآخر بصوت أجش :
ـ نريد مخطوطات المشروع الأخير الآن ، وإلا سندمر كل شيء ، ونقتل صديقتك العزيزة "سارة" .
بدأ الدخان المتصاعد من الحريق يغطي المكان ، فألقي ستارا كثيفا مثل الضباب ، جعلهما لا يريان الذنب الرهيب ، وهو يقصف الهواء بشكل غاضب .
أخذ الرجلان يتقدمان إلى الأمام ، و" عزيز" يتراجع إلى الوراء ، استطاعت "سارة" من مخبئها أن تلمح الذنب وهو يشق الدخان ، فصرخت مرتعبة ، بينما انكمش الدكتور "أسعد" وقد نال منه الفزع ، واستولى عليه الخوف ، وهو يرى الرجلين يتقدمان مشهرين أسلحتهما ، وذنب "عزيز" المخيف وهو يتراقص.
أخذت ألسنة النيران تمتد إلى داخل المكان ، بينما كان الرجلان يتقدمان هوى الذنب على أحدهما وأطبق عليه ، فسقط جسده في الحال لافظا أنفاس الحياة ، انطلقت رصاصة في نفس اللحظة أصابت "عزيز" في كتفه ، فانبثقت بقعة كبيرة من الدم ، بالرغم من الألم المروع الذي كان يشعر به ، فقد تحامل على نفسه ، وامتد ذنبه الطويل مرة أخرى وهوى على الرجل بسرعة خاطفة قبل أن يطلق رصاصات أخرى ، فوقع علي الأرض دون حراك .
بدأت النيران تشب في أنحاء المكان ، أخذ لهيبها يلفحهم ، صرخ "عزيز" في الدكتور "أسعد" وهو يلوح بيده تجاه "سارة" :
ـ خذها فورا واخرجا الآن .
قال "عزيز" وهو يضع يده على مكان الجرح الذي كان ينزف بغزارة :
ـ اتركاني الآن ، ولا تفكرا بي بعد الآن .
وثب الدكتور "أسعد" ًصوب "سارة" القابعة في مكانها وراء الأٌقفاص ، وغطاها بمعطفه الثقيل ، وحملها بين ذراعيه ..
صرخت "سارة بلوعة :
ـ "عزيز" .."عزيز" .
هتف "عزيز" بصوت واهن ضعيف وهو يتهاوى على الأرض :
ـ إنني أموت الآن ، اتركا جسدي لتأكله النيران ، وليبق أمري سرا لا يعرفه أحد غيركما .
تقدم الدكتور "أسعد" بين النيران المتأججة ، و"سارة" بين ذراعيه ، وجرى بسرعة خارج المكان مخترقا الباب المشتعل ، ثم تقدم في المختبر عابرا الدهليز بمشقة بعد أن تهدم بناؤه ، حتى أصبح خارج مبنى المعمل المنهار، بينما كانت النيران تندلع بشكل مخيف وقد أخذت كل شيء في طريقها ، حتي الحيوانات المسكينة رهينة الأقفاص .
شبت ألسنة النيران الملتهبة نحو السماء ، والتمع في عيني كل من "سارة" والدكتور "أسعد" الأسى الممزوج بدموعهما .
غمغمت "سارة" بحزن غامر ، وبقلب منفطر :
ـ وداعا يا حبيبي ، أرجو من الله أن يغفر لك كل خطاياك .
لف الدكتور "أسعد" ذراعه حولها ، وهتف برقة :
ـ هيا يا "سارة" لنغادر هذا المكان المشئوم .
ركبا السيارة التي مرقت عبر البوابة مخترقة الصحراء ، حاولت "سارة" أن تلتفت وراءها ، فصاح الدكتور "أسعد" :
ـ أرجوك يا "سارة" لا تنظري وراءك فلقد انتهى كل شيء .
________________
في الطرف الآخر من مبنى الأبحاث كانت سيارة جيب سوداء تنهب الصحراء ناثرة الرمال حولها بشكل غاضب ، قبع عزيز خلف مقودها وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة غامضة مصوبا نظراته إلى الأمام .
تم الجزء الأول ، وأشكر كل من قرأ وجميع من شارك برأيه في هذا العمل ، وأخص بالذكر استاذنا نزار الذي كان لنقده أعظم الأثر في نقسي ، وجعلني أكثر ثقة من الدرب الذي اخترته منهاجا لأعمالي الرروائية .